الثلاثاء، 22 مايو 2012

عقرب وأصابع


تجمعت سحب غاضبة في صفحة السماء، فانصهرت ثم تلاحمت لتكون وحشاً رمادياً التهم بين جنباته النجوم والقمر، ثم برمحٍ من البرق المُلهب أصاب محطة الكهرباء فعطلها؛ فهاج بحر الظلام وهاجمت أمواجه الحي لتغرقه. لم يكد النور ينسحب من أخر عمود كهرباء حتى عزف الرعد لحناً تأثرت له السماء فبكت. تساقطت حبات المطر على الأرض فاصدرت نغماً إنفجارياً متتابعاً، وانسلت أصابع الرياح الرشيقة لتلعب بأوتار الشجر ليعزف الكون كله سمفونية المطر.

يلتمع البرق فجأة فيضئ جانب من وجه ملئ بالتجاعيد خالي من التعبير تاركاً الجانب الأخر لصِبغَة الظلام : وجنه عظمية بارزة يزيد من بروزها الشعر النابت المتسلل إلى الذقن المحيطه، أنف دقيق تحمله شفتان مزمومتان، عين حمراء غائرة تتأمل عباءة الظلام التي أحاطت بأركان الدنيا خارج زجاج النافذة المغلقة.

يجلس على كرسي خشبي أمام النافذة معطياً ظهره للغرفة، كل ما في الغرفة في غير موضعه إلا كرسيه وبيانو ضخم تجلس عليه امرأه شابه ترتدي فستان عرس ينافس بياضه الباهت شحوب جلدها، وساعة حائط يتحرك عقرب ثوانيها عكس تتابع الأرقام، تجاورها صورة كل ألوانها درجات الأحمر.

رفعت العروس الشاحبه أناملها عن أصابع البيانو، وقامت تجر ذيل فستانها المهترئ لتتقدم نحو النافذة، وتقف خلف الكرسي تتأمل حبات المطر التي تنساب على زجاج النافذة من الخارج، رفعت يدها ووضعتها على كتف العجوز الذي لم يلتفت لها وظل شاخصاً في اللاشئ، وعقرب الثواني يتقدم نحو الثانية عشر من ناحية الواحد.

على الرغم من قيام العازف إلا أن البيانو لم يتوقف عن العزف، أستمرت أصابعه البيضاء والسوداء في الحركة لأعلى ولأسفل كأنما تمتلك روحاً خاصة. روحأ معذبة. تدق على الأوتار فتصرخ ما تبقى من المقطوعة الموسيقية التي بدأتها العروس.

توقف العقرب عند الثانية عشر فصمتت الساعة، استمر البيانو في العزف كأنه يبكي، انحنت العروس وقبلت العجوز على خده، قبل أن تهمس في أذنه، إلتمع البرق في الخارج لتظهر يمنى العجوز تحمل مسدساً.

صوت فرقعة. نقطة نهاية. لا صوت إلا صوت تكات عقرب الثواني في رحلته بإتجاه الواحد على الساعة المعلقة بجوار صورة عروس شابة تناثرت على حواف فستانها نقاط من الدم وحليت زاويتها – الصورة - اليمنى العلوية بشريطه سوداء. 

الثلاثاء، 8 مايو 2012

مطار القاهرة - صالة الرحلات الموسمية


ايقظها مفزوعةً شعور داخلي بأنها لم تسمع المُنَبِه وأنها قد تأخرت على الموعد، نفضت الغطاء من على جسدها وهبت جالسةً على السرير، كانت الغرفة مظلمة تماماً إلا من خطوط الضوء الضعيفة المتسربة عبر فتحات شيش الشباك، دست يدها تحت الوسادة وبحثت متحسسةً عن الموبايل، ضغطت على الزر لتضيئ الشاشة، ابتسمت، لقد فعلها عقلها القلق كعادته وأيقظها قبل المنبه بساعة.

بعد أن وضع أخر قطعة من الملابس في الحقيبة المفتوحة فوق السرير نظر إلى الساعة المُعلقة على الحائط، بعد ساعتين من الأن سيكون على متن الطائرة في طريقه عائداً إلى الوطن، توجه إلى الحائط ورفع الصورة المعلقة بجوار الساعة – صورة شاب في العشرينيات من العمر في بدلة سوداء بجوار عروس جميلة في فستانها الأبيض-  قَبْل الصورة قبل أن يضعها بين الملابس و يغلق الحقيبة.

غادرت السرير لأنها تعرف بحكم العادة أنه لا فائدة من محاولة النوم مرة أخرى، تحسست في الظلام طريقها إلى الشباك وفتحته، هبت من ناحية البحر نسمة رقيقة بددت ما تبقى بها من كسل، استندت على حافة الشباك وتأملت السماء الصافية التي ارتدت لليلة ثوباً مرصعاً ببعض النجوم وقمراً مكتملاً.

نظر في مرآة الحمام يتأمل الشعرالقصير الذي نبت على ذقنه كالأعشاب الضارة التي تستغل انشغال المزارع عن الحقل فتنمو في غفله منه، أمسك موسي الحلاقة وجمع المحصول، استغرق وقتاً طويلا في الاستحمام كأنما يزيل عن جسده أثار عامين طولين من الغربة.

فتحت الدولاب على مصرعيه، تُخرج الفستان، ترتديه، تتأمله في المرآة، ثم تجد عيباً بسيطا لا يراه إلا عقلها هي فتخلعه وتتأفف وتلقيه على الأرض ثم تسحب غيره .. مضت ساعه قبل أن تستقر على الفستان الأزرق القصير ذو شريط الوسط الأبيض وتبدأ في معركة تصفيف الشعر.

جلس في مقهى المطار، لن يصعد إلى الطائرة إلا بعد ساعة، تحسس جيب البدلة من الخارج ليتأكد أنه لم ينس الهدية، ثم أخرج كتاباً من الحقيبة الصغيرة الراقدة بجوار الكرسي وأخذ يقرأ، تقدم النادل منه سائلاً عن طلباته فطلب كوب من القهوة المظبوطة التي جاءت ساخنة، كانت عيناه تتحرك فوق السطور بطريقة ألية دون أن يستقر أياً من معانيها في نفسه، لقد كان مشغولاً، أغلق الكتاب وأعاده إلى الحقيبة، رشف القليل من القهوة ليتأكد من طعمها ثم أعادها إلى الطاولة لتبرد قليلاً، وسيطر اللقاء على كل تفكيره.

سألت ساعتها عن الوقت قبل أن تقوم وتتجه إلى شاشة سوداء معلقة على إحدى أعمدة المطار لتتأكد من ميعاد وصول الرحلة للمرة الخامسة عشر، "لقد وصل، لقد وصل" صرخت حينما تغيرت العلامة المجاورة لرقم رحلته معلنه عن وصول الطائرة، اتجهت إلى باب الوصول والمذيعه الداخلية للمطار تعلن عن وصول الطائرة، شقت طريقها لتقف بين الصفوف الأولى للمنتظرين.

مرت دقائق الاجراءات الرسمية السريعة كأنها الدهر، وضع الحقائب على عربة المطار وانطلق نحو المنعطف الأخير الذي يفصله عن صالة الوصول، ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة حينما أدرك أن قدماه تسرعان الخطو تكادان تجريان، هدأ من سرعته وهو ينعطف نحو بوابة الوصول والظابط الواقف قبلها، سلمه جواز السفر دون أن ينظر إليه، كانت عيناه تمسح الملوحين خلف السياج المعدني بحثاً عن شخص ما، فجأه توقفت، وضحك.

لم تتمالك نفسها حينما رأته – رجعت طفلة – أضحت تلوح له بيدها وتتقافز، لولا الإحراج لصرخت ونادت عليه، لم تهدأ إلا حينما رأها وابتسم، تأملته من بعيد، لقد زاد وزنه قليلا ولكن شكله لم يتغير حتى اللحية الخفيفة التي يعتبرها جزءً من شخصيته لم تتغير - لم تنقص ملي ولم تزد-، شقت طريقها عابرةً السياج المعدني لتستقبله عند الباب.

لمعت عيناه وهو يخطو نحو البوابة، نحو الحب، تأمل فستانها الأصفر الطويل والطرحة البيضاء التي تحوط وجهها المُزين بابتسامة شوق رائعة، ترك عربة الحقائب واحتضنها غير عابئ بالعيون، رفعها عن الأرض قليلاً قبل أن يتركها وينظر في عينيها قائلا "وحشتيني !!".

بعينٍ تابعت البوابة منتظرةً ظهور زوجها  وبالأخرى تابعت لقاء زوجين أخرين، تولد في قلبها شعور بالغبطة على الشوق الذي قتل الخجل ليحرر هذه التحيه الرائعة، تمنت أن تواتيها الشجاعه...... ظهر زوجها فغابت الدنيا، اختفى الزوجان، اختفى الناس، اختفى المطار، نزلت الستائر فغطت المسرح والممثلين ولم تترك إلا البطل، مرت اللحظات سريعة خاطفة كأنما خرجت من جسدها وتركته تحت سيطرة خيوط الشوق الخفية ليتحكم به، رأت نفسها تركض كطفل نحو أمه بعد يوم شاق في المدرسة، ثم تقذف بنفسها إلى زوجها الذي استقبلها بذراعين مفتوحتين، لم تعد إلى جسدها إلا لتسمعه يقول "وحشتيني !!"