الثلاثاء، 5 يونيو 2012

أولاد حارتنا - المرشدي - الجزء الثاني ( ثلاثية انتخابية )







الـجـــــــزء الأول ( أولاد حارتنا - شفيق الذل )






انحنت الشمس نحو الغرب في حنو ، وتراقصت فروع الشجر تحت أصابع نسمات العصاري ، بدأت العصافير تعود إلى أعشاشها وأخذت تغرد في رضا .. وقفت فاطمة في مكانها المعتاد تحت الشجرة الكبيرة تطلب الرزق وتنتظر أفاعيل القدر ...

تحت عمته البيضاء رجلٌ عجوزٌ مشتد العود كأنه ابن العشرين لا السبعين في قفطانه الرمادي ، يحمل وجهه نظرة واثقة مطمئنة ولحية خفيفة مُحددة بعناية ، على الرغم من مظهره الوديع إلا أن المارة كانوا يبتعدون عن طريقه في ذعرٍ بَينٍ بسبب الوحوش الثلاثة التي تتبعه ، وتهب النساء واقفات عن المصاطب عند مروره وينسحبن بهدوءٍ إلى داخل الدور ويغلقن أبوابها بإحكام ...
وقف الوحوش في زوايا متفرقة يراقبون الطريق الخالي ، ألقى الشيخ عاكف المرشدي – فتوة حارة المرشدي - السلامَ على العجوز الأعمى ، وابتسم في ثقة لفاطمة قبل أن يطلب شاياً غاضاً بصره عنها ، ولكنها لم تكد تلتفت لتلبي الطلب حتى رسم عودها الفوار بعينيه وتأمل صفحةً من وجهها دون أن تلاحظه وإن أحست نظراته الملتهبة تخترق عباءتها الثقيلة ...


كان الشيخ المرشدي فتوة من نوع خاص ، فهو على الرغم من ضعف البنيان إلا أنه شديد الذكاء ، استغل مكانته كشيخ الجامع الكبير ليتاجر بالدين ويجمع من حوله المغفلين من الضعفاء والجهلاء ، كان يُسمعهم معسول الكلام فكانوا كعرائس الماريونيت بين يديه يربطهم برباطٍ وهميٍ من الشريعة وتعاليم الدين – المغشوشة ، أما الأقوياء المشاغبون فقد ضمن ولاءهم بما يغدق عليهم من هدايا وأموال – يجمعها غالباً من أموال التبرعات والزكاة – كما أنه كان يطلق العنان لطبيعتهم المشاغبة من آن لآخر في معركة هنا وغزوة هناك وراء حلمه الأوحد في السيطرة على الحي كاملاً ، فكان في الظاهر شيخاً ورعاً كريماً أما في الخفاء فقد كان فاجراً مُغرماً بالسلطة والسيطرة .

التفت فاطمة فجأة فغض بصره عن مؤخرتها وأعمل أصابعه في المسبحة ، نظر في عينيها وابتسم وهو يتسلم كوب الشاي قائلاً " تسلم الأياادي " .. شرب الشاي المحلى بالرغبة يتفكر في الخطوة القادمة ، التفت إلى فاطمة وعلى شفتيه شبحُ ابتسامة مشفرة المعاني ثم سلمها الكوب الفارغة ، قبل أن يرحل وفي رأسه تتراقص خيالات جنسية بطلتها فاطمة ، وفكرة قديمة بدأت تعاود الوميض كالجمرة تحت الرماد تحمى وتستعر إذا هبت الرياح ...


بعد صلاة العشاء صدحت زغاريط في سماء الحارة آتيةٌ من الربع الذي تسكنه فاطمة ، وقف الرجال أمام الأبواب ، جرى الأطفال نصف عرايا بلا سبب ، ووقفت النساء تتطلع من وراء النوافذ ؛ كلٌ يتساءل عن سر الزغاريط والغرباء الذين ملأوا أركان الحارة .؟
تعالت الأصوات وعم الهرج والمرج الغرباء الواقفين حول باب الربع قبل أن يظهر الشيخ المرشدي خارجاً من الربع وسط هتافات هي أقرب للصياح وتعلو وجهه ابتسامة الظافر ، أشار إلى الجَمع فسكت ، أجال النظر في أهل الحي البؤساء قبل أن ينادي بصوته الجهوري الرزين : " أيها الناس اسمعوا وعوا .. كنتم بالأمس إخوةً واليوم أنساباً ، وما أنا إلا عبد الله آتاني المال والقوة لأكون يده الحانية في أرضه الواسعة .. ومن ذا يرضى لأهله وإخوته مذلة الفقر وبطش الظالم .. ولذلك ؛ أُعلن أن الحد تابعة لحارة المرشدي وتحت حمايتي .. ولا أريد منكم أتاوةً ولا مالاً .. إن أريد إلا الكلمة الطيبة والمحبة الخالصة .. من اليوم ينزل في حارتكم أخي مرسي .. ثم أشار إلى مرسي ذراع المرشدي اليمنى - رجل رشيق الجسد مشدوده ، قوي ولكن بلا ضخامة ، يُعرف بسرعته الخرافية في المعارك وضرباته المتقنة ، وهو رجل المهمات الصعبة بحق - ... " ينزل فتوةً على الحارة لخدمتكم والعمل على مصالحكم ومصالح زوجتي فاطمة " قالها واتسعت ابتسامته حتى كادت تصل بين أذنيه قبل أن يرحل إلى حارة المرشدي ، وقد استعرت في صدره جمرةُ الحلم القديم ؛ حلم السيطرة على الحي ................... تمتم هامساً "عصفورين بحجر .".

وقف المعلم شفيق على باب مقهى دهب على أطراف حارة الذلول ممسكاً بنبوته الأسود وقد احمر وجهه من الغيظ ، ينظر يميناً ويساراً ثم يخبط بنبوته على الأرض في عصبيةٍ شديدةٍ وواضحة حينما يرتد إليه البصر وهو حسير ، يمشي باتجاه الميدان - حيث يُقام سوق السبت - فيجيل بصره في أنحاء الميدان ثم يخبط الأرض بنبوته الشهير قبل أن يرجع إلى موقفه الأول فيلقي نظرةً على القهوة المكتظة برجاله الشداد كلٌ يمسك بنبوته ، تأفف ثم قال : " زقرد ابن الكلب اتأخر" فرد عليه أحد الرجال "هدي أعصابك يا معلم .. الغايب حجته مع..." أخرسه بنظره غاضبة قبل أن يعود إلى مراقبة الطريق ..




انتبه المعلم شفيق فجأة إلى جهة اليمين وأضاءت عينيه شراراتُ الشر قبل أن يرفع النبوت وينطلق باتجاه زقرد يليه أتباعه الذين انتفضوا قائمين ، تصلب زقرد في مكانه من هول المنظر ، وصرخ كأنما يحتمي بالخبر " الشيخ مرشدي نشر رجالته في حارة الحد .. و .. و .. وخطب فاطمة الغجرية "... توقفت الأرض عن الدوران واختبأ القمر وراء سحابة مارة وانطفأت النجوم .. ساد الصمت للحظات قبل أن يقطعه المعلم " ابن ال**** شيخ المنصر " .. وسرت بين الأفراد همهمات تناقش الخبر ، قبل أن يُخرسها شفيق الغاضب لعضوه و كرامته محدثاً سليمان ذراعه الأيمن " حضر الرجالة كلها على يوم الجمعة.... دبور و زن على خراب عشه"..




............................................يتبع
 

الجمعة، 1 يونيو 2012

أولاد حارتنا - شفيق الذل - الجزء الأول ( ثلاثية انتخابية )

حارتنا حارة الفقر والحقارة، هي أقرب إلى ممر يصل – أو يفصل – بين حارة المرشدي وحارة الذيول العظيمتين والمتناحرتين دائماً. لا شئ فيها يتحرك إلا ملك الموت وذرات الغبار، تتابع الأيام يطوي الليل النهار ثم يبدد النهار الليل في دورة بطيئة ومملة، تشرق الشمس كل يوم على رابح يستقل النعش المهترئ في رحلته الأخيرة والوحيدة إلى دار الأمان على أطراف الصحراء – إلى المقابر – وتغرب على بكاء منحوس جديد يعوض من ذهب، ويدعوا للتساءل لماذا يتناسل من يرى جانب الحياة القاسي المظلم – محض أنانية - .. ولكن دوام الحال من المحال.

لكل حارة في حينا فتوة تُسمى الحارة باسمه، إلا حراتنا فلا فتوة لها ولكن لها أسم، فالطعام الفاسد تعافه الأنفس حتى الجائع منها، وحارتنا حارة الجوع والفساد، فانعدام المال وكثرة الأفواه منع فتوات حارتي المرشدي والذلول من السعي في السيطرة على حارتنا تحت غطاء كاذب سُمي بالمعاهدة: فقديما في أول الزمان قامت معركة عظيمة يين المراشدة والذيول للسيطرة على حارتنا ولما زاد عدد القتلى وكاد الفتوات يفنون بعضهم بعضاً لولا تدخل فتوة الحي حَنَش الذي أعلن أن حارتنا لا تتبع أحداً وأنها حد فاصل بين الحارتين، ومن هنا جاء أسم حارتنا " الحد ".
عاشت حارتنا حداً وكانت لتموت حداً لولا نزول فاطمة بائعة الشاي بها، بدوية جاءت مع أبيها الأعمى، ظهرت فجأة كأنما انشقت عنها الأرض، كأنما أراد القدر أن يحرك المياة الراكدة في حارتنا فأولد هذا البركان.. شابة في العشرين، جسد رشيق نحتته رياح الصحراء، بشرة برونزية شكلتها الشمس على أجمل ما يكون، وعين مُكحلة على طريقة البدو التي تأثر القلوب، إذا ابتسمت انبعث من بين شفتيها سحر يوقف الزمن، يوقف الكون، ترتدي ثوب البدو المطرز كثير الألوان، وتنحسر طرحتها عن شعر غجري مجنون، تحمل عدة الشاي وتجوب أركان حارتنا يتبعها والدها الأعمى الذي يتغنى بلهجة بدوية " اشرب الشاي ياللي توحد الله ".

انتشرت سيرة البدوية كما تنتشر النار في الهشيم، فقدحت نار العشق عند رجال حارتنا وأشعلت جحيم الغيرة في النساء، تحجج الرجال بشُرب الشاي فقط لينالوا ابتسامة تقطر بلسماً يرطب حروق الدنيا الراقدة في البيت، تنافس الشباب في إظهار قوتهم في معارك مفتعلة في طلب نظرة إعجاب من عين الحياة المُكحلة، أما النساء فقد أدركن خطورة الموقف وشدة المنافسة، إمتلأت حمام الحارة بالمُستحمات، جمع العطار مكاسب العام كله في أسبوع واحد، وشق نهر الجمال طريقه في شوارع حارتنا الفقيرة، تغيرت الحارة وامتلأت بالحياة وتغنى المغني " الجمال جمال الروح .. يا روح ما بعدك روح " .. ولكن دوام الحال من المحال.

لم يقف سحر فاطمة على حدود حارتنا بل امتد إلى الحارات المجاورة، توافد الرجال إلى الحد ليشاهدوا اسطورة الغجرية كحيلة العين ولتتشبع أرواحهم بعبق الحب والجمال. وفيما الشمس تذوب في بحيرة الشفق الدامية والسمرة تلون حواشي الآفاق شق حارتنا رجل ضخم الجثة أنيق الملبس دميم الوجه، يخطوة الخطوة ثم يُتبعها بضربة من نبوته الأسود فتهتز لوقعها – الضربة – أرض الحارة وقلوب ساكنيها، تدارى الرجال في الزوايا بعيدا عن العملاق ذو النبوت، وأغلقت الحوانيت أبوابها، هرولت النساء في صمت لتحمل صغارها المعترضين إلى داخل البيوت وتغلقن الأبواب وشراعات النوافذ التي يقفن من وراءها في إنتظار ما سيحدث.

إتجه المعلم شفيق الذل إلى موقف فاطمة، وقف أمامها، التفت إلى العجوز الجالس بجوار عدة الشاي يرتل القرآن وقال موجهاً الحديث إلى فاطمة "واحد شاي من أيدك الحلوة " .. التي ألتفت في رعب لتلبية طلب العملاق، جرت عيناه على حركة جسدها وانحناءاته واستقاماته قبل أن يهز رأسه في طرب ويبتسم ابتسامة قبيحة ذات معنى أبرزت الندوب البارزة في وجهه، تلك الندوب التي ترسم طريقه المفروش بالقتلى نحو فتونة حارة الذيول ويذكر الناسي بقسوته التي تتخطى قسوة الوحوش في البرية، توقف العجوز الأعمى عن الترتيل للحظات إثر سماع الصوت الغليظ القاسي - حتى في التدلل – قبل أن يعاود القراءة بصوت أعلى كأنما يحاول أن يطرد الشيطان الذي نزل بالمكان فجأة.
رحل المعلم شفيق كما أتى بعد أن شرب الشاي وأشبع عينيه من جمال فاطمة – ولو مؤقتاً ، رويدا رويدا عادت الحياة إلى الحارة، فظهر المختبؤن في الزوايا وعاودت المحلات فتح أبوابها وعاد الأطفال للجري والصراخ في شوارع الحارة، ألقى المارة نظرة مُشفقه على فاطمة التي جف الدم في عروقها، فكلٌ يعرف معنى زيارة شفيق الذل، وكلٌ يدرك المصير المظلم الذي قادها إليه جمالُها، مصير لا منجي منه إلا الموت أو معجزة ... فهل أفلت شمس المعجزات بعد؟


........................... يتبع