استيقظت من نومي المضطرب على صوت صراخٍ وعويل, لا أظن أن الصوت ايقظني؛ ففي هذا المكان حيث يقبع الموت عند كل ركن منتظراً - أن يخطف أحدنا -, يصبح الصراخ عادةً لا يستعصي معها النوم . عدلت من وضعي وجلست في سريري أشاهد مستقبلي الذي اعتدت مشاهدته - في اليوم مرة أو مرتين - ؛ فيوماً ما سأكون أنا الميت ومن حولي هم الصارخون .


أصابني مرض نادر, لم يُبق لي في الدنيا سوى أسابيع, ذهبت وجئت بحثاً عن العلاج فلم أجد, جربت الوسائل العلمية والشعبية ولكن النتيجة دائماً واحدة . سمعت أن طبيباً أجنبياً يزور هذا المشفى, وأن الأمل لو وُجد فهو بين يديه, فسافرت إلى القاهرة, و قابلت الطبيب, فحصني وهز رأسه في أسى و نظر إلي بعين العاجز, لم أفهم من كلامه ما يقول, ولكن تلك النظرة أغنت عن كل ما يمكن أن يشرحه اللسان . كأنما أطلقت عينيه سهم اليأس المسموم ليغرز في قلبي فقتل ما تبقى لي من أمل, أستسلمت لسيف الموت الممتد, انتظر أن يذبحني في أي لحظة؛ ولما كنت أرملا بلا أولاد ولا أهل إليهم أعود, طلبت أن أنتظر مصيري في هذا المشفى مغرياً مدير المشفى بالتبرع بنصف ما أملك للمشفى, فبعثني لهذا السرير الفارغ لأموت فيه بسلام .

ولما كانت الغرفة ضيقة فقد كان التعارف سهلاً, ولما كان النهار طويلاً فارغاً فقد أضحى التعارف واجباً, عرفت في هذة الغرفة اناساً حُكم عليهم بالإعدام, و ما جريمتهم إلا أنهم ولدوا وعاشوا في بلدٍ تُقدس الموتى لا الأحياء – وربما على حساب الأحياء. براءتهم في زرع عضوٍ من ميت, ولكن الأهل يحرمون عليهم أعضاء أبنائهم التي يحلونها لدود الأرض .

نتسلى نهاراً عن المرض بالضحك, ونتسلى ليلاً عن اليأس والألم بالحديث عن الأحلام والأمل . نضحك كأن هناك غداً وبعد غدٍ حتى لا يُغرق الحزنُ قلوبنا, نتكلم عن الأمل ونعرف أننا ميتون خشية أن يقتلنا اليأس قبل المرض, نتكلم عن أحلامنا, نفتح أبواب القلوب لتنطلق طيور الأحلام خوفا أن يعاجلنا الموت فتموت الطيور في الأقفاص .

عن يميني يقبع سرير محمد, شاب أهلكت البلهارسيا كبده حتى لم يبق حل إلا الزرع, حكى لي محمد قصته مع المرض, كيف أهمل العلامات الأولى للمرض حتى استفحل واعتدى, يضحك ويقول " ما أنا إلا قاتل نفسي, كنت أتبول دماً ولكني لم أشغل بالي بالأمر وعددته مرض عابر كغيرة من الأمراض " . خبرني أن بلاده بعيدة في الصعيد وأنه ما جاء هنا للعلاج ولكن لطلب الرزق .

 " جاءنا أفندي محترم " قال محمد " يرتدي البدلة و رابطة العنق, تكلم مع عمدة البلد يطلعه على حاجته إلى عمال لبناء برج عال في القاهرة بأجور طيبة, تقدم للعمل معظم شباب القرية إن لم يكن كلهم, وقع علي الاختيار فيمن وقع . سافرت مودعاً الأهل والأحباب وكلي أمل أن أعود بعد عام أو عامين بمال يكفي لشراء أرض أزرعها و أبيع المحصول فتبتسم الحياة بعد عبوس . ولكن المرض لم يمهلني كثيراً : بدأ لوني في التغير حتى أضحى بياض عيني أصفراً, هزل جسمي وضعف, وانتفخ بطني, وحين تقيئت دماً قلق الأفندي وأصر على أن يأخذني إلى المشفى للفحص, وهنا أخبروني أن البلهارسيا قد قضت على كبدي المسكين, وأنه لا بد من استبداله . حُجزت في المشفى للسيطرة على حالتي والحيلولة دون التدهور . وها أنا أنتظر الأمل البعيد أو الموت القريب "

 ايقظني بكاؤه المكتوم في ليلة من الليالي, فقمت إلى سريره أستفسر عما يحزنه علي أخفف عنه, فأجابني - وهو يحول عني عينيه التي كانت قد احمرت من كثرة البكاء – بأن أباه اليوم قد باع الأرض التي يملكونها لينفق على علاجه . تخيلت حال الأب بين العجز والألم : العجز عن مساعدة ولده لأن فصيلة دمه – محمد - نادرة لا تتطابق مع أياً من أفراد العائلة, والألم في الاستغناء عما يملك ليشتري لولده بضع شهور اضافيه قد لا تأتي بجديد فتمضي كما مضت سابقتها, فيـضيع المال والولد مـعاً .

جاء أبو محمد لزيارته, لكن محمد لم يكن موجوداً, دخل الرجل الغرفة - فعرفته لقوة الشبه بينه وبين ولده – فلما لم يجد ابنه في سريره كاد يصيبه الهلع من هول الاحتمالات لولا أن أخبرته – دون أن يسأل – أن محمد يخضع لبعض الفحوصات وسيعود بعد قليل . جلس الرجل على سرير ولده ثم إلتفت إلي قائلاً  أنه حينما يوُلد الولد لا تمتلك إلا أن ترسم له خير مستقبل, تقول لنفسك غداً يصبح طبيباً أو مهندساً, تعمل بجد وتبذل فوق طاقتك طاقات لتؤمن له ذلك المستقبل الذي رسمت, تشرب المر وتتحمل الصعاب أملاً أن ينجو هو من تذوق تلك الكأس, تضحي بكل أهدافك لتحقق له أحلامه . ثم يأتي المرض ليحرق تلك اللوحات التي رسمت, ويطغى طعم المر على طعم اللقمة, وتتهدم أحلامه فتتهدم أهدافك, ولا يبقى سوى الفراغ يصارعك وتصارعه فينتصر

وجدت نفسي أحكي له عن مرضي – لا أدري ألأسليه عما هو فيه أم أني لا أملك في حياتي إلا مرضي – حكيت له كيف أني شرقت وغربت بحثاً عن العلاج فلم أجد, ضحكت من حياتي – عله يضحك – عشتها كلها في القرية وأموت في المدينة, ولكن ملاحظتي الأخيرة ألمته - فولده عاش حياته كلها في الصعيد وسافر إلى المدينة ليموت – ,ترقرقت في عينيه دمعة, فاضت على الخد, ثم سالت في ذلك الأخدود الذي حفره الزمان على وجه العجوز, ثم قفزت عن الذقن . وفي المسافة بين قفذتها وتلاشيها على جلباب الرجل أدركت الغرض ورأيت ما رسمه القدر .

,خيط منتظم اللحظات أم لحظات مبعثرة في مهب الريح لا يحكمها إلا الولادة في البداية والموت في الختام؟!
, أؤمن بأن لكل حدث دلالة وسبب, وأن كاتب أقدار العباد ما هو إلا الله وحده لا شريك له رحيم حكيم . لم يبعث الله الأفندي إلى قرية الصعيد عبثاً, ولا حرمني من الولد وأصابني إلى المرض عبثاً, ولا بعث بالطبيب الأجنبي في هذا المشفى بالذات عبثاً, ما نحن إلا سطور في لوحٍ مسطور, نتحرك في طريق رسمه لنا القدر, كما تسري القافلة في الصحراء وفقا لقدر فتقابل قافلة أخرى فتجد كلتهما ما تحتاج عند الأخرى, لكلٍ منا غلية وهدف في هذه الحياة فلما لا يككون لي نفع وفائدة عند الممات .

طوى الدكتور عبدالفتاح الورقة التي كان يقرأ منها, والتفت إلى أصحابه ليكمل الحكاية وقال
" استدعاني سعيد فأعطاني هذه الورقة وأوصاني ألا أقرأها إلا عندما يموت . ثم أعلمني أنه يرغب في التبرع بكبده لمحمد, فأخبرته أن الموضوع ليس بهذه البساطة وأنه لا بد أن تتطابق فصيلة الدم والأنسجة وأخريات ما زالت تحتاج إلى الفحص لنتأكد هل يقبل محمد الكبد أم لا, نظر إلي فرأيت في عينيه وهجاً يناسب الأحياء لا مريض على شفى الموت قائلاً " نحن متطابقان " فتسألت هل خضعتما للفحص دون علمي, فرد علي " لا نحتاج إلى الفحص إنه القدر "