الأحد، 9 أكتوبر 2011

من خرج من داره


دوى صوت القطار وهو يغادر الرصيف كأنما أحس بألم الفراق الذي اجتاح الراحلين فصرخ, نظر شلبي من شباك القطار البادئ في التحرك ليلقي نظره أخيره على أمه وسط المودعين, أشار لها مودعا بيدٍ مرتجفه وعينٍ دامعه, ظل ينظرإليها - كأنما يحفر صورتها على قلبه ليتذكرها متى شاء أو قل احتاج – حتى اختفت المحطه وأمه خلف البيوت والأشجار, همهم بكلمات غير مفهومه ثم اعتدل في جلسته واسند رأسه إلى ظهر المقعد ثم اغمض عينيه, وسلم عقله إلى الأفكار المتناقضه وقلبه إلى المشاعر المتنازعه .

حاول شلبي النوم, لكن صوت عجلات القطار المنتظم و طنين الأفكار المضطربه منعه, أخذ يتذكر دموع والدته على المحطه وهي تحاول للمره الأخيره ثنيه عن السفر قائلةً " يا بني, من خرج من داره اتقل مقداره ", والدته التي ساعدته لتحصيل تكاليف رحلته رغم رفضها التام لها . تذكر يوم تقدم باستقالته من مشفى القرية التي عُين به بعد تخرجه, وكيف أحس يوم تسلم عمله به كطبيب أنها – المشفى - ليست إلا قبراً مظلماً لطموحه . تذكر كيف اجتهد عشر سنين في دراسة الطب وقوده الأمل – و لا غير الأمل – في أن يحقق شيئا عظيما في المستقبل . عادت به الذكريات إلى يوم وفاة والده وكيف أمسك بيده و قال " شلبي, عايزك ترفع راسي ." وكان لا يزال طالبا في الكليه, يومها عقد العزم أن يكون واحدا من العظماء . ثم عادت أمام عينيه صورة والدته وهي تبكي, فطردها – الصورة – ورسم صورة أخرى في خياله : صورة والدته وهي تبتسم فخوره بعد أن عاد من سفره وقد حقق هدفه, تأمل الصورة كثيرا كأنما يحفرها على قلبه بدلا من الأخرى, ليتذكرها متى شاء أو قل احتاج .

لم يكن شلبي غنيا, تمكن – هو وأمه – من تجميع مبلغ مناسب لكنه لا يكفي إلا لسفره, وثمن التأشيره, ومصاريف أسبوع على الأكثر, جمعوها من بيع بعض أثاث المنزل, وما تبقى من حلي الأم الذهبيه, كما باعو قطعة الأرض التي ورثها الأب المتوفي عن أجداده وورثها شلبي عنه . لجأ شلبي إلى أحد مدرسيه في كلية الطب - وهو جراح طاعن السن عظيم المركز واسع العلاقات وقد كان شلبي طالبه المفضل – ليساعده في الحصول على فرصة عمل بالخارج في أحد المستشفيات البحثيه, كما سعى للحصول على خطابات توصيه من كبار الأطباء الذين يعرفهم ويعرفوه, معتمدا على ذكرى اجتهاده وذكراه الطيبه . 

 يوم وطأت قدماه أرض الولايات المتحده أدرك أن الطريق إلى حلمه صعب, فهذا البلد لا يرحب بالوافدين ولا يرحم المقصرين وخاصه من الأصول العربيه, دارت الأسئله في رأسه وتبدت العقبات أمام عينيه, كيف سيتخطى مشكلة اللغه؟؟,كيف سيعرف طريقه في هذه الأرض المجهوله؟؟, هل تكون المشفى الجديده مناسبه؟؟, كيف ستكون معاملة زملاءه الأطباء في المشفى ؟؟, هل ستكون قاسيه فظه و ربما وقحه كمعاملة أفراد أمن المطار ؟؟ هل سيجد مكانا مناسبا للعيش ؟؟, كيف سيكون جيرانه ؟؟ هل يساعدوه إن احتاج للمساعده ؟؟, هل سينجدوه إذا احتاج للنجده ؟؟, هل أخطأ في ترك بلدته ؟؟, لِمَ لمّ يقبل بمصيره في وطنه كما قَبِل غيره؟؟ كل هذه الأفكار إضافه إلى نظرات الماره المرتابه جعلت جملة أمه تتردد في مسامعه " من خرج من داره اتقل مقداره ".

كان العام الأول هو الأصعب, سكن شقة ضيقة, في حي فقير, لم تكن لها أي حسنات سوى قربها من المشفى, مما سمح له بالمشي إليه موفرا نقوده, وممارسا بعض الرياضه . تعفف عن وجبة الأفطار, غذاؤه كان كطعام المرضى في مطعم المشفى, أما العشاء فقد كان بقايا طعام الزبائن في المطعم الذي عَمِل به في المناوبة المسائيه, كان نهارا طبيبا باحثا, وليلا غاسل صحون . لم يحاول التعرف على جيرانه خشية الوقوع في مشاكل لا قبل له بها, كما منعه جفاء زملاءه في المشفى, وضعف لغته الانجليزيه  من تكوين صداقات, أحس بالوحده الشديده, لم يساعده على الصبر إلا صورة امه المحفوره على قلبه .

دارت الأيام وانقضت سنون وعاد شلبي إلى بلاده, في طريق العودة أخذ يتذكر تلك الأيام الصعبة التي قضاها في الغربه, أخذ يتذكر أمه وقولها الأخير ثم تمتم مبتسما " من خرج من داره ", تذكر كيف صبر على المصاعب وتخطى العقبات, كيف , حَسَن لغته عن طريق قراءة الروايات الانجليزيه, حتى صار بعد عامين يضاهي من ولدوا وعاشوا في ذاك البلد. تذكر انقلاب حال زملاءه في العمل حين أدركوا طيب معدنه فاقتربوا منه واقترب منهم, بل أضحى يملك عددا من الأصداقاء الذين ولا شك سيشتاق إليهم في وطنه . كيف ترك شقته الأولى وانتقل إلى شقه أفضل مستخدما ما وفره من عمليه, وشراءه دراجه ليتخطى عيب الشقه الجديده الوحيد – وهو بُعدها عن المشفى –  . كيف ترقى في عمله كطبيب بسبب اجتهاده وذكاءه وكيف ساعدت ابحاثه الكثيرين, وكيف نال العديد من الجوائز لتكلل مجهوده العظيم, تذكر يوم ترك عمله في المطعم بعد تحسن الأحوال, وإن لم ينقطع عنه, فقد كان يزوره كثيرا ليأكل هناك, ولطالما حسده الزبائن على الاهتمام الزائد الذي يلقاه من زملاءه القدامى بالمطعم, فكر كثيرا في نظرة الناس التي توهمها أول ما وصل نظره قاسية مرتابه, ولكنه بعد أن اكتسب ثقة في النفس أدرك أنها نظرات عادية ولكن قلبه المضطرب وحده فسرها كما فسرها آن ذاك .
على المحطه, جلست أم شلبي تنتظر ولدها, تنظر إلى الساعه كأنما تستعجل الوقت الذي استحالت دقائقه ساعات, تقوم لتنظر إلى امتداد السكه الحديديه يمينا وشمالا علها تلحظ القطار فيطمئن قلبها ولو قليلا, فلا تجد له أثرا فتعود إلى المقعد, ثم لا تلبث أن تقوم مره اخرى لتنظر؛ فقد هيأ لها قلبها المشتاق أنها سمعت صوت قطار فلا تجد للصوت مصدرا فتعود إلى جلستها, تهز رجلها كأنما تنفض عنها ألم الانتظار, وتتسلى عن الوقت بالتساؤل والتخيل, تتساءل كيف عاملته الغربه بمخالبها القاسيه ؟, هل تغير شكله ؟, تتساءل هل ستعرفه بعد غياب سنين ؟, تتخيل وصول القطار تتخيل وليدها تتمنى أن يكون بخير حال, وتخشى أن يصح المثل -  " من خرج من داره اتقل مقداره ", تخشى عليه ألم الفشل وكسرة القلب . كم اشتاقت إليه, تتخيل لحظة اللقاء الدافئه, وتنظر إلى ساعة المحطه كأنما ترجوها الإسراع بها  .

يدوي صوت القطار من بعيد معلنا عن قرب وصوله إلى المحطه كأنما أحس بفرحة العائدين فضحك, تلتفت أم شلبي باتجاه الصوت تخشى أن يكون وهما من أوهام القلب, لكن لا يلبث فؤادها أن يتراقص فرحا حين ترى دخان القطار من وراء البيوت والأشجار . يرسو القطار على رصيف المحطه ويبدأ الناس في النزول, تقف أم شلبي وسط الرصيف تتلفت يمينا ويسارا تتابع بعينيها كل الأبواب, تمر ثواني البحث القصيرة كأنها سنون طويلة, تسمع نداءاً من خلفها, تسمع صوته لكنها لا تراه, فيطمئن القلب, و لكن تدمع العين . لما رأته هرولة مستقبله ,احتضنته طويلا كأنما تملئ الفراغ - الذي تركه برحيله - بعودته, قبلت خده وقبل رأسها, نظرت إليه من وسط الدمع ضاحكةً فخوره وقالت
 -  " تخنت يا ولَّه ", يبتسم شلبي ويرد .
-  " وحشتيني يا امه ", تحتضنه وتتساءل بمثلها الشعبي المفضل 
- " من خرج من داره اتقل مقداره ؟؟ " . فيبتسم ويرد بمثل والده المتوفى المفضل 
- "
من لا يحب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر " ......................................................... تمت

اهداء إلى والدي و والدتي .
اهداء إلى صديق لم ألتقه بعد ولم يتصادف أن كان أسم بطل القصه كاسمه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق